فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: إن الموصول عبارة عن أناس منافقين وهم طائفة معهودون من المذكورين وغيرهم، وأيد ذلك بما أخرجه الشيخان والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن رجالًا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت هذه الآية؛ وروي مثل ذلك عن رافع بن خديج وزيد بن ثابت وغيرهما، وقيل: المراد بهؤلاء المنافقون كافة، وقد كان أكثرهم من اليهود.
وادعى بعضهم أنه الأنسب بما في حيز الصلة لشهرة أنهم كانوا يفرحون بما فعلوا من إظهار الإيمان وقلوبهم مطمئنة بالكفر ويستحمدون إلى المسلمين بالإيمان وهم عن فعله بألف منزل، وكانوا يظهرون محبة المؤمنين وهم في الغاية القاصية من العداوة، ولا يخفى عليك أنه وإن سلم كونه أنسب إلا أنه لم يوجد فيما نعلم من الآثار الصحيحة ما يؤيده، ومن هنا يعلم بعد القول بأن الأولى إجراء الموصول على عمومه شاملًا لكل من يأتي بشيء من الحسنات فيفرح به فرح إعجاب، ويود أن يمدحه الناس بما هو عار منه من الفضائل منتظمًا للمعهودين انتظامًا أوليًا على أنه قد اعترض بأن انتظام المعهودين مطلقًا فضلًا عن كونه أوليًا غير مسلم إلا إذا عمم ما في بما أتوا بحيث يشمل الحسنات الحقيقية وغيرها أما إذا خص بالحسنات كما يوهمه ظاهر هذا القول فلا يسلم الانتظام لأن أولئك الفرحين لم يأتوا بحسنة في نفس الأمر ليفرحوا بها فرح إعجاب كما لا يخفى، ولعل الأمر في هذا سهل، نعم يزيده بعدًا ما أخرجه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي والبيهقي في الشعب من طريق حميد بن عبد الرحمن أن مروان قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبًا لنعذبن أجمعون، فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه الآية إنما أنزلت هذه الآية في أهل الكتاب، ثم تلا {وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب} [آل عمران: 187] إلى آخر الآيتين فإن لو كان الأولى إجراء الموصول على عمومه لأجراه حبر الأمة وترجمان القرآن، وأزال الإشكال بتقييد الفرح بفرح الإعجاب كما فعل صاحب هذا القول ولا يلزم من كلام الحبر على هذا عدم حرمة الفرح فرح إعجاب وحب الحمد بما لم يفعل بالمرة بل قصارى ما يلزم منه عدم كون ذلك مفاد الآية كما قيل وهو لا يستلزم عدم كونه مفاد شيء أصلًا ليكون ذلك قولًا بعدم الحرمة، كيف وكثير من النصوص ناطق بحرمة ذلك حتى عده البعض من الكبائر فليفهم و{بِمَفَازَةٍ} وتصدير الوعيد بنهيهم عن الحسبان المذكور على ما قال شيخ الإسلام للتنبيه على بطلان آرائهم الركيكة وقطع أطماعهم الفارغة حيث كانوا يزعمون أنهم ينجون بما صنعوا من عذاب الآخرة كما نجوا به من المؤاخذة الدنيوية وعليه كان مبنى فرحهم، وأما نهيه صلى الله عليه وسلم فللتعريض بحسبأنهم المذكور لا لاحتمال وقوع الحسبان من جهته صلى الله عليه وسلم.
وأنت تعلم أن تعليل التصدير بما ذكر على تقدير إجراء الموصول على عمومه على ما مر غير ظاهر إلا أن يقال بالتغليب.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} بيان لثبوت فرد من العذاب لا غاية له في المدة والشدة إثر ما أشير إليه من عدم نجاتهم من مطلق العذاب ويلوح بذلك الجملة الإسمية والتنكير التفخيمي والوصف وجوز أن يكون هذا إشارة إلى العذاب الأخروي ويحمل نفي النجاة من العذاب فيما تقدم على نفي العذاب العاجل وهو كونهم مذمومين مردودين فيما بين الناس لأن لباس الزور لا يبقى وينكشف حال صاحبه ويفتضح. اهـ. بتصرف يسير.

.من فوائد ابن الجوزي في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا} وقرأ أهل الكوفة: {لا تحسبنَّ} بالتاء.
وفي سبب نزولها ثمانية أقوال:
أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم، سأل اليهود عن شيء، فكتموه، وأخبروه بغيره، وأروه أنهم قد أخبروه به، واستحمدوا بذلك إِليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه، فنزلت هذه الآية.
والثاني: أنها نزلت في قوم من اليهود، فرحوا بما يصيبون من الدنيا، وأحبّوا أن يقول الناس: إنهم علماء، وهذا القول، والذي قبله عن ابن عباس.
والثالث: أن اليهود قالوا: نحن على دين إبراهيم، وكتموا ذكر محمد صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن جبير.
والرابع: أن يهود المدينة كتبت إلى يهود العراق واليمن، ومن بلغهم كتابهم من اليهود في الأرض كلها: أن محمدًا ليس بنبي، فاثبتوا على دينكم، فاجتمعت كلمتهم على الكفر به، ففرحوا بذلك، وقالوا: نحن أهل الصوم والصلاة، وأولياء الله.
فنزلت هذه الآية، هذا قول الضحاك، والسدي.
والخامس: أن يهود خيبر أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقالوا: نحن على رأيكم، ونحن لكم ردء، وهم مستمسكون بضلالتهم، فأرادوا أن يحمدهم نبي لله بما لم يفعلوا، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة.
والسادس: أن ناسًا من اليهود جهزوا جيشًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، واتفقوا عليهم، فنزلت هذه الآية، قاله إبراهيم النخعي.
والسابع: أن قومًا من أهل الكتاب دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم خرجوا من عنده فذكروا للمسلمين أنهم قد أخبروا بأشياء قد عرفوها، فحمدوهم، وأبطنوا خلاف ما أظهروا، فنزلت هذه الآية، ذكره الزجاج.
والثامن: أن رجالًا من المنافقين كانوا يتخلفون عن الغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا قدم، اعتذروا إليه، وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا.
فنزلت هذه الآية، قاله أبو سعيد الخدري، وهذا القول يدل على أنها نزلت في المنافقين، وما قبله من الأقوال يدل على أنها في اليهود.
وفي الذي أتوا ثمانية أقوال:
أحدها: أنه كتمانهم ما عرفوا من الحق.
والثاني: تبديلهم التوراة.
والثالث: إيثارهم الفاني من الدنيا على الثواب.
والرابع: إضلالهم الناس.
والخامس: اجتماعهم على تكذيب النبي.
والسادس: نفاقهم بإظهار ما في قلوبهم ضده.
والسابع: اتفاقهم على محاربة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه أقوال من قال: هم اليهود.
والثامن: تخلُّفهم في الغزوات، وهذا قول من قال: هم المنافقون.
وفي قوله تعالى: {ويحبُّون أن يحمدوا بما لم يفعلوا} ستة أقوال:
أحدها: أحبوا أن يُحمدوا على إجابة النبي صلى الله عليه وسلم، عن شيء سألهم عنه وما أجابوه.
والثاني: أحبوا أن يقول الناس: هم علماء، وليسوا كذلك.
والثالث: أحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا من الصلاة، والصيام، وهذه الأقوال الثلاثة عن ابن عباس.
والرابع: أحبوا أن يحمدوا على قولهم: نحن على دين إبراهيم، وليسوا عليه، قاله سعيد بن جبير.
والخامس: أحبوا أن يحمدوا على قولهم: إنا راضون بما جاء به النبي، وليسوا كذلك، قاله قتادة.
وهذه أقوال من قال: هم اليهود.
والسادس: أنهم كانوا يحلفون للمسلمين، إذا نصروا: إنا قد سررنا بنصركم، وليسوا كذلك، قاله أبو سعيد الخدري، وهو قول من قال: هم المنافقون.
قوله تعالى: {فلا يحسبُنهم} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، فلا يحسبُنهم، بالياء وضم الباء.
وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي، بالتاء، وفتح الباء.
قال الزجاج: إنما كررت تحسبنهم لطول القصة، والعرب تعيد إذا طالت القصة حسبت، وما أشبهها، إعلامًا أن الذي يجرى متصل بالأول، وتوكيدًا له، فتقول: لا تظننَّ زيدًا إذا جاء وكلمك بكذا وكذا، فلا تظننَّه صادقًا.
قوله تعالى: {بمفازة} قال ابن زيد، وابن قتيبة، بمنجاة. اهـ.

.تفسير الآية رقم (189):

قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أخبر بهلاكهم دل عليه بحال من فاعل يحسب فقال تعالى: {ولله} أي الذي له جميع صفات الكمال وحده {ملك السماوات والأرض} أي لا يقع في فكرهم ذلك والحال أن ملكه محيط بهم، وله جميع ما يمكنهم الانحياز إليه، وله ما لا تبلغه قُدَرُهم من ملك الخافقين فهو بكل شيء محيط {والله} أي الذي له جميع العظمة {على كل شيء قدير} وهو شامل القدرة، فمن كان في ملكه كان في قبضته، ومن كان في قبضته كان عاجزًا عن التفصي عما يريد به، لأنه الحي القيوم الذي لا إله إلا هو- كما افتتح به السورة. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال القرطبي:

{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)}.
هذا احتجاج على الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء، وتكذيب لهم.
وقيل: المعنى لا تظُنّن الفرحين ينجون من العذاب؛ فإن لله كلّ شيء، وهم في قبضة القدِير؛ فيكون معطوفًا على الكلام الأوّل، أي إنهم لا ينجون من عذابه، يأخذهم متى شاء.
{والله على كُلِّ شَيْءٍ} أي مُمْكن {قَدِيرٌ} وقد مضى في البقرة. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَللَّهِ} أي خاصةً {مُلْكُ السموات والأرض} أي السلطانُ القاهرُ فيهما بحيث يتصرف فيهما وفيما فيهما كيفما يشاء ويريد، إيجادًا وإعدامًا إحياءً وإماتةً تعذيبًا وإثابةً من غير أن يكون لغيره شائبةُ دخلٍ في شيء من ذلك بوجه من الوجوه، فالجملةُ مقرِّرة لما قبلها، وقوله تعالى: {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} تقريرٌ لاختصاص مُلكِ العالَمِ الجُسماني المعبَّر عنه بقُطريه به سبحانه وتعالى قادرًا على الكل بحيث لا يشِذ من ملكوته شيءٌ من الأشياء يستدعي كونَ ما سواه كائنًا ما كان مقدورًا له ومن ضرورته اختصاصُ القدرةِ به تعالى واستحالةُ أن يشاركه شيءٌ من الأشياء في القُدرة على شيء من الأشياء فضلًا عن المشاركة في ملك السمواتِ والأرضِ، وفيه تقريرٌ لما مر من ثبوت العذابِ الأليمِ لهم وعدمِ نجاتِهم منه. وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقع الإضمارِ لتربية المهابةِ والإشعارِ بمناطِ الحكمِ، فإن شمولَ القدرةِ لجميع الأشياءِ من أحكام الألوهيةِ مع ما فيه من الإشعار باستقلال كلَ من الجملتين بالتقرير. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض} تقرير لما قبله حيث أفاد أن لله وحده السلطان القاهر في جميع العالم يتصرف فيه كيفما يشاء ويختار إيجادًا وإعدامًا إحياءًا وإماتة تعذيبًا وإثابة، ومن هو كذلك فهو مالك أمرهم لا راد له عما أراد بهم {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} تقرير إثر تقرير والإظهار في مقام الإضمار لتربية المهابة مع الإشعار بمناط الحكم فإن شمول القدرة لجميع الأشياء من أحكام الألوهية والرمز إلى استقلال كل من الجملتين بالتقرير، وقيل: مجموع الجملتين مسوق لرد قول اليهود السابق {إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء} [آل عمران: 181] وضعف بالبعد ولو قيل وفيه ردّ لهان الأمر. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)}.
ثم شرع في حكاية شبه الطاعنين في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وذلك أنه لما أمر بالإنفاق في سبيل الله قالوا: لو كان محمد صادقًا في أن الله تعالى يطلب منا المال فهو إذن فقير ونحن أغنياء، لكن الفقر على الله محال فمحمد غير صادق. وأيضا لو كان نبيًا لكان إنما يطلب المال لأجل أن تجيء نار من السماء فتحرقه كما كان في الأزمنة السالفة، فلما لم يفعل ذلك عرفنا أنه ليس بنبي.
فهذا بيان النظم وليس في الآية تعيين القائلين إلا أن العلماء نسبوا هذا القول إلى اليهود لعنهم الله لقولهم في موضع آخر {يد الله مغلولة} [المائدة: 64] عنوا أنه بخيل. وذلك الجهل يناسب هذا الجهل، ولأن التشبيه غالب عليهم، والقائل بالتشبيه لا يمكنه إثبات كونه تعالى قادرًا على كل المقدورات، وإذا عجز عن إثبات هذا الأصل عجز عن بيان أنه غني، ولما روي عكرمة ومحمد بن إسحاق والسدي ومقاتل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب مع أبي بكر إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإلى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا الله قرضًا حسنًا.
فقال فنحاص عن عازوراء وهو من علمائهم- أتزعم أن ربنا يستقرضنا أموالنا فهو إذن فقير ونحن أغنياء، فغضب أبو بكر ولطمه في وجهه وقال: لولا الذي بيننا وبينكم من العهد لضربت عنقك. فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد انظر ما صنع بي صاحبك. فقال رسول الله صلى الله لأبي بكر: «ما الذي حملك على ما صنعت» فقال: يا رسول الله إن عدوّ الله قال هكذا. فجحد ذلك فنحاص فنزلت هذه الآية تصديقًا لأبي بكر. وأيضا إن موسى لما طلب منهم الجهاد ببذل النفوس قالوا له: إذهب أنت وربك فقاتلا. فلا يبعد أن محمدًا صلى الله عليه وسلم لما طلب منهم الأموال قالوا له: لو كان الإله غنيًا فأعي حاجة إلى أموالنا. ثم إن القائل لو كان فنحاصًا وحده فإنما يستقيم قوله: {لقد سمع الله قول الذين قالوا} لأن أتباع الرجل والمقتدين به حكمهم حكمه. ثم أنه تعالى لم يجبهم عن شبهتهم. أما على قواعد أهل السنة فبأن يقول يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد، فلا يبعد أن يأمر عبيدة ببذل الأموال مع كونه أغنى الإغنياء. وأما على قوانين المعتزلة فبأن في هذا التكليف فوائد منها: إزالة حب المال عن القلب، ومنها التوسل إلى الثواب المخلد، ومنها تسخير البعض للبعض فبذلك ترتبط أمور التمدن وتنتظم أحوال صلاح المعاش والمعاد وإنما لم يجب لكثرة ورودها في القرآن {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92] {من ذا الذي يقرض الله قرضًا حسنًا فيضاعفه له اضعافًا كثيرة} [البقرة: 245] {وما تنفقوا من خير فلأنفسكم} [البقرة: 272] ولأن وجوب الوجود عبارة عن الغنى المطلق حتى لا يحتاج في ذاته ولا في شيء من صفاته ولا بجهة من جهاته إلى ما سوى ذاته. فمن اعترف بوجوب وجوده ثم شك في كمال غناه في وجوده فقد عاد بالنقض على موضوعه فلا يستحق الجةاب عند أولي الألباب، وإنما يستأهل صنوفًا من العتاب وضروبًا من العذاب فلهذا قال على جهة الوعيد {سنكتب ما قالوا} في صحائف الحفظة، أو نستحفظه ونثبته في علمنا لا ننساه كما يثبت المكتوب فلا ينسى. وفي التفسير الكبير: سنكتب عنهم هذا الجهل في القرآن حتى يبقى على لسان الأمة إلى يوم القيامة. ثم عطف عليه قتلهم الأنبياء ليدل على أنهم كما لو يقدروا الله حق قدره حتى نسبوا إليه ما نسبوه، فكذلك لم يقضوا حقوق الأنبياء ففعلوا بهم ما فعلوا.